شهادات

فاتح المدرّس في حفل تأبين سعيد تحسين

استطاع زميلنا الفنّان السوري سعيد تحسين أن يتفهم روح اللون الدمشقي وعمل بجدٍّ ومهارة وبحبٍّ عميقٍ لوطنه. وعندما زرته في بيته منذ سنوات كانت أعماله تملأ جدران منزله، وكان يعيش أواخر أيامه بين هذه الأعمال صامتاً. وكان اللون المهيمن على أكثر الأعمال هو لون ضوء الساعة السابعة صباحاً في دمشق 1950 وما قبل، وألوان أضواء الساعة السادسة مساءً في دمشق الحضارة الشرقية العريقة. كان جوّ اللوحة يعكس شخصيّته كملوّن، منهمٌ بعمقِ وسريّة ذلك العطر الاجتماعي العمراني الذي لا يفهمه إلاّ ابن البيئة. وهذا الامتياز طبع أعماله بخصوصيّة سعيد تحسين. تمّ كلّ هذا الجهد في زمنٍ صعبٍ أرغم الفنّان على صمتٍ حزينٍ مغلّف بستارة الغربة الروحيّة.

فالفنون الجميلة زيادة فكريّة تمثّل الوجه الجميل للشعب وتدفع التشريع المعاصر نحو نبالة ديمقراطية يحتاجها الإنسان المعاصر لأنّها الضمان لديمومة شريفة. رحل سعيد تحسين وهو ينظر إلى الجسر خلفه بدهشة.

هذه كلمة نقيب الفنون الجميلة فاتح المدرّس بمناسبة حفل تأبين الفنّان الراحل سعيد تحسين برعاية الدكتورة نجاح العطار وزيرة الثقافة بعد أربعين يوماً على وفاته.

عالم الفن… شتاء 2024-2025  تيبو جوسيه

سعيد تحسين 1904-1985

يُعدّ سعيد تحسين أحد أعلام الرسم في الشرق الأوسط، ويشهد حاليًا اهتمامًا متجددًا بالدراسات الفنية والتاريخية حوله، ستُترجم قريبًا إلى إصدارين هامين: الأول مخصّص لمذكراته، والثاني عبارة عن كتالوج موثّق لأعماله. أعماله المتميزة ومسيرته الفريدة، التي خلّفت وراءها العديد من الوثائق، تشهد على تأثيره الكبير في العالم العربي خلال بدايات القرن العشرين، وتقدّم رؤية معمّقة للثقافة التشكيلية العربية الإسلامية المعاصرة.

هناك لقاءات فنية نندم على عدم تحقيقها في وقتٍ أبكر. وعلى الرغم من أن سعيد تحسين (1904-1985) تمّ تناوله في البداية من منظور المؤرخين، إلاّ أنه يدهش الباحثين اليوم ليس فقط بالسياق الذي نشأ فيه، بل أيضًا بالتنوّع الأسلوبي المذهل الذي يميّز أعماله التشكيلية. وقد تمّت إعادة بناء مسار حياته من خلال جمع مذكراته وعملٍ دؤوب في الربط بين التفاصيل، قاده الاقتصادي والمؤرخ سمير العيطة، حفيده. وقد يصبح هذا المسار نفسه موضوعًا للتأمل، كونه يدفع لإعادة تعريف مفهوم الإنتاج الفني في بلاد الشام خلال القرن الماضي.

سوري الأصل، جال سعيد تحسين العالم العربي طوال النصف الأول من القرن العشرين، مانحًا إيانا لمحة عن عالمٍ فكري مزدهر يمزج بين الأوساط الفنية، الأدبية، الصوفية، والسياسية. وعلى الرغم من أن هذا المناخ مألوف لدى المتخصصين في تلك الحقبة، إلا أن حياة الفنان لا تخضع بسهولة للقوالب التفسيرية المعتادة، وبصراحة، تبدو شبه مستحيلة التلخيص.

علاوة على ذلك، فإن مسيرة سعيد تحسين تحيطها مناطق غامضة تحمل معها الكثير من المجهول والتناقضات. ورغم كونه عصاميًا بالكامل، علّم نفسه بنفسه، فقد برز كواحدٍ من أفضل التقنيين، بالمعنى الكلاسيكي، في عصره. وُلد ونشأ في دمشق، التي كانت وستظل حاضرة في قلبه، إلاّ أن وعيه الجمالي والسياسي تبلور بقوّة في بغداد، بينما قضى السنوات العشرين الأخيرة من حياته في القاهرة، حيث وصلت أعماله إلى ذروتها الفنية والنضج النهائي.

في أعمال هذا الفنان، يتجلى نوعٌ من “الحضور الغائب”، تلك الخطورة المرتبطة بما لا يمكن القبض عليه. طيلة حياته، التزم تحسين برسم مجموعة واسعة من المواضيع، مع حرص ٍ دائم على إعادة اختراع أسلوبه مع كل موضوع جديد. لا يمكن وصف مسيرته بأنها تطور خطيّ كما اعتاد مؤرخو الفن وصف الفنانين، بل تبدو أقرب إلى تحوّلٍ دائم، إذ مكّنته براعته التقنية من تبنّي أيّ عالم ٍ بصريٍّ كان وإعادة صياغته بما يخدم رؤيته الشخصية.

هناك في فنه شيء يشبه الاندفاع الشامل، عقل دائم الحركة لا يعرف القيود، يتلاعب بالحدود والأطر، ويحتضن التعبير الفني في جوهره قبل أن يصقله في شكله النهائي. لا يقتصر  سعيد تحسين على التكيف، بل يتجاوز ذلك إلى إعادة الصياغة، والتنوع، والتشكيل بحرية تامة، حيث تصبح المادة بالنسبة له ليست فقط قابلة للتطويع، بل هي جوهر التطويع ذاته.

هذا التوجه يختلِف عن التعريف الأوروبي للأسلوب في القرن العشرين. كما يتناقض أيضًا مع الصورة التقليدية للإنتاج الفني في الشرق الأوسط، التي كثيرًا ما يتمّ التصوّر أنه محدود وموحد في سياقه السياسي والديني. بانتقاله بين الواقعية، والطبيعية، والانطباعية، وحتى التنقيطية، والرمزية، والسريالية، والفانتازيا، والأحلام، من رسام للمعارك إلى مصور للبورتريه الحسّاس، ومن راوي ملحمي إلى مصوِّر مناظر طبيعية مهيبة، ومخرج مشاهد حميمة، لم يتوقّف سعيد تحسين يومًا عن أن يكون ذاته. وتبقى بصمته واضحة في كلّ لوحة من لوحاته.

هذا يفسّر الشعور بحضورٍ غريب يخيّم حول أعمال سعيد تحسين، ويتعزّز باستحالة تحديد طبيعتها الدقيقة: ظلّ يد الخالق حاضرٌ في كلّ مكان، لكن اليد نفسها تبقى غير مرئية. وفي تدفّقٍ إبداعي يبدو غير منقطع ودائم الحركة، كان الفنان، الذي تلمح في أعماله هنا وهناك اهتماماته ورغباته وطموحاته، دائمًا يسبق المراقب بخطوة. فكلما اعتقدت أنك وصلت إلى بابه، تجده قد انتقل بالفعل إلى مكانٍ آخر.

الغوص في عقود إنتاجه الفني هو تجربة آسرة بقدر ما هي محبِطة، لأنّ هناك دائمًا إحساس بأن شيئًا جوهريًا فيه يفلت من بين أيدينا. ما يتجاوز النقاشات السياسية والأيديولوجية السائدة في العالم العربي في زمانه، وما يتجاوز الأفكار المتغيّرة التي يمكن استنتاجها من أعماله، هو أن تحسين قدّم، في نهاية المطاف وقبل كل شيء، صورة فسيفسائية للإسلام. حيث يظهر الفكر الإسلامي في أعماله متنوعًا، متعدّد الأشكال، ومحتضنًا جميع الجذور الفلسفية والصوفية لهذه الحضارة.

من الجدير بالذكر على وجه الخصوص حبّ سعيد تحسين الملهم لشعر أبو العلاء المعرّي، الشخصية الأدبية العملاقة في العالم العربي في العصور الوسطى، الذي تظلّ روحانيته الساخرة حاضرة بنفس القوة بعد ألف عام. ومن اللافت أن العمل الأهمّ للمعرّي متاح للقارئ الفرنسي بفضل ترجمة وعرض استثنائيين قدمهما هوا هوى فونغ وباتريك مغربنة، تحت عنوان “اللزوميات: قصائد الزهد”، الصادر عام 2009 عن دار سندباد/أكت سود.

بالنسبة لمن يبحث عن ما وراء الصور، فإن أعمال سعيد تحسين تشبه سلسلة من الأبواب المفتوحة جزئيًا، تقدم لمحة عن كون عقلي مذهل: حقبة، ثقافة، دين فلسفي قبل أن يكون سياسيًا، وفوق كل شيء، لغز. هذا اللغز، الحقيقة الغامضة لإنسان عبّر من خلال الرسم بلا كلل عن ما كان يعتقد أنه ينبغي قوله، يبقى في صميم إرثه.

نظرة أوروبية لوسي برياست

يمكن للمرء أن يتساءل كيف يمكن لرجلٍ واحدٍ أن يحاول، وينجح، في لمس كلّ نمطٍ ووسيطٍ ونوعٍ فنيٍّ ممكن. وكيف يمكن للمرء أن يعرِّف فناناً لا يرتِّب نفسه في أحد الصناديق العديدة التي يوفِّرها تاريخ الفن الغربي؟ وهل يحتاج المرء إلى أسلوبٍ فريدٍ ليكون فناناً؟… ليس لدى تحسين أسلوباً واحداً فريداً، ولكن العديد من الأساليب المتتالية، وأنماطٍ متنوّعة لفترات مختلفة من حياته. لم يتبع دروساً للفن ولكنّه درَّس الفن لفترةٍ من الزمن؟ عبقريّ – لم يكن لديه أسلوب فريد ولكن كان لديه موهبة فريدة. موهبة فنان علّم نفسه بنفسه، يرسم ويرسم ويرسم ما يعرفه وما يسمعه أو ما يشعر به… على مدار حياته، دمجت الرموز فنّه. كانت لوحاته الأولى مجرّد تمثيلٍ لبيئته. ومع مرور الوقت نمت لتصبح لوحات ضخمة تمثل معتقداته السياسية وتراثه ودينه. لم يعرف فنّه حدوداً، حيث دفعته إرادته إلى مشاركة رؤيته لعالمٍ متغيّرٍ بالألوان والملمس والحركة.

في استخدامه للألوان، يتّجه تحسين نحو رؤية الفنان الفرنسي بول غوغان (1864-1903). عندما دَرَّس بول سيروزييه (1864-1927)، وطلب من الرسام الشاب تمثيل العالم بالألوان كما يراها، والابتعاد عن الاستخدام التقليدي للألوان…

أجلس أمام هذه اللوحة الزيتيّة على القماش بمقاييس 45/30 سم لمدّة خمس دقائق فقط. فأتمكّن من سماع المياه الجارية والطيور، وشخصٌ ما يصفِّر بعيداً عن الأنظار وربما ضحكات طفل. أجلس أمام فناء البيت الدمشقي هذا لمدّة خمس دقائق فأتمكّن من تذوّق العطلات والوقت المعلَّق. مرّة أخرى، التقط الفنان لحظة عاطفية، أفضل من أيّ جهاز تصوير. ليس لديه سبب لرسم هذه اللحظة، لا يوجد حدث، لا حرب، ولا ظلم اجتماعي. رغم ذلك، فقد جلس الفنّان، وربما لعدّة ساعات، وأعاد ترتيب الألوان على قماشه، مع نسيجٍ خشن، وتراكم طبقات متعدّدة من الطلاء، لخلق مشهدٍ من حياته اليومية. ومن خلال التنقل بين التفاصيل الدقيقة، كالقضبان عبر النوافذ، وظلّ الفروع على الحائط، رسم الفنان عبر ضربات فرشاة سريعة أجواءً وليس فقط منظراً…

نظرة عربيّة نور عسليّة

طوال حياته الفنيّة، عبّر الفنان السوريّ سعيد تحسين (١٩٠٤-١٩٨٥) عن انتمائه الوثيق وبشكل أساسيّ إلى القضايا الإنسانيّة والأحداث التاريخيّة-السياسيّة وإلى مشاهد التراث المحليّ الدمشقيّ… تدفعنا العناصر التوثيقيّة جميعها للاعتقاد بأنّه حتى مع استخدم التقنيات الجديدة القادمة من التقاليد الأوربية، أيّ الألوان الزيتية ولوحة الحامل، فإن جزءاً كبيراً من استلهامات سعيد تحسين الأولى كان دمشقيّاً… ومع أنه ليس لدينا معلومات تجزم باطلاع تحسين على المدارس الفنية حتى عبرَ الكتب، وأن بعض القيم الانطباعيّة غابت عن لوحته، مثل مبدأ الدمج اللوني البصري الذي ينجم عن تجاوز الألوان، إلّا أنّ سماتٍ انطباعية أخرى تظهر في لوحاته مثل اللمسات اللونيّة ومبدأ الخروج من المرسم للرسم في الفضاء الطبيعي وتنويع الإضاءات للدلالة على اللحظة الزمنية من النهار أو الفصل من السنة. وإذا ما انطلقنا من هذا الاعتبار (أي حضور الانطباعية في لوحته) فتجدر الإشارة إلى أن هذا الأسلوب قد تمّ إغناؤه بالطابع المحليّ، ليس فقط على مستوى العناصر الشكليّة، إنما أيضاً على صعيد قيم النور…

يظهر المنحى الرمزي لدى تحسين بجلاء أيضاً على صعيد اللون، حيث اعتمد الفنان على اللون كعنصرٍ تعبيريّ نفسيّ أكثر من كونه عاملَ مطابقةٍ للواقع. ويظهر ذلك في عناصر مثل خاصيّات الإشباع اللوني والتدرّج والشفافيات وسماكات ضربات الفرشاة… يمكن ملاحظة الرمزيّة أيضاً في أعمال «الروحانيات»، وقد طغى عليها أسلوب رمزيّ يقترب من السورياليّة…

عفيف بهنسي

الحق أنّ سعيد تحسين ساهم بصورة إيجابيّة في تثبيت دعائم الحركة الفنيّة، فبعد أن عاش حياة النضال مع رفاقه من المجاهدين، أعطى نفسه كليّاً للعمل الفني، فلم يقبل منصباً أو شاغلاً يبعده عن الإنتاج بعد أن تخطى مرحلة الحاجة والتشرّد في الأوطان، فعكف في مرسمه يصدر لوحات رائعة في طريقتها الكثير من بساطة الحياة التي كان يعيشها الشعب بعد ويلات الحرب والاحتلال، وفي موضوعاتها آثار بليغة لجهاد الأمة في سبيل السيادة والكرامة.

بعيداً عن التأثيرات الغربية كان سعيد تحسين يقوم بتصوير موضوعات وطنية وشعبية بأسلوبٍ مبسّط يعتبر من أشدّ الأساليب أصالةً.

مؤرّخ سوري للفنّ العربي والإسلامي وأمين معارض فنيّة، شغل منصب المدير العام للآثار والمتاحف في دمشق، سوريا.

Scroll to Top